كيف تكون الغربة سبباً للقاء؟وكيف يكون اللقاء بعد فراق؟دائماً ما كان يتردد هذا السؤال على مسامعي و لا أعرف الجواب,كنت أنتظر الإشراقة بالإشراقة,وفي قلبي صبر و حنين,ولم أتوقع أن ألقاها بعد كل هذه السنوات
هل ما حصل معي طبيعيٌّ و يمكن حصوله؟و كم تكرر هذا الحدث في الحياة؟إسمي ناجي,أبلغ السادسة و الثلاتين من العمر,متزوج من كترينا ستينتن,ولديَّ أجمل طفلة في العالم,إنها ليلى,أجل أسميتها ليلى نزولاً عند رغبة زوجتي الحبيبة,فقبل أن أتعرف عليها كانت لديها مرشدة وفية من المملكة المغربية,تمدها بالكثير من الدعم عندما تكون في حاجة إليها,فكترينا شرطية بدرجة ظابط ممتاز,في مكتب التحقيق التابع لمدريد بإسبانيا,وقد تعرفت على ليلى,في إحدى عمليات التنشيط الروتينية التي تقوم بها الدوريات الليلية,حيث وجدتها على حافة القنطرة بشارع سان دييغو,في محاولة للإنتحار,تقول زوجتي وهي تروي لي ما حدث:
لقد كنت في سيارة الشرطة مع فريق العمل وكانت كل الأمور عادية وروتينية,وكان ألفريد جويناس كعادته يسوق بتمهل,قلت له أسرع يا رجل فلا زال لدينا الكثير لننجزه,نظرت إلى الساعة فكانت تشير إلى الثامنة و الربع مساءً,مررنا بإحدى المقاهي و نزلت لأحضر خمس كؤوس من الحليب الممزوج بالشكلاطة,دفعت ثمنها و عدت إلى موقعي,توقفنا قليلاً لأخذ قسط من الراحة قبل أن نتابع المسير,كان الجو قارساً والرطوبة لا تحتمل
وكان الحليب بالشكلاطة بمثابة مدفأة أشعرتنا بالإعتدال,ورحنا نتسامر بالحديث عن الذكريات حتى انتهينا من إحتساءه وانطلقنا,جُبْنا كل الأزقة,وكان كل شيء طبيعياً,فكٌ لنزاعاتٍ بسيطة بين بعض المراهقين,وإيقاف بعض
الزنوج عن إثارة الشغب في المدينة,وإقتدناهم بمعية رسامين متطفلين يرسمون على الجدران إلى سيارة الدورية,تقريباً لم يبقى أمامنا سوى العودة إلى قسم الشرطة,وفي طريقنا للعودة مررنا بشارع سان ديجو فجأة:
كترينا:ألفريد توقف لحظة,توقف توقف قلت لك توقف
ألفريد: (توقف مذعوراً)ماذاهناك كاتي؟
كاترينا:إرجع قليلاً إلى الخلف(بينما كان ينفذ ما طلبته منه)حسناً توقف هنا ممتاز
كان الأمر مروعاً,الفتاة تريد الإنتحار,نزل الجميع وحاولنا الإقتراب منها و كانت خائفة و تبكي بحرقة,تحاول ان تلقي بنفسها إلى الأسفل لكنها مترددة,فساعدني هذا على محاورتها,كلمتها بالإسبانية,لكنها لم تكن تفهم ما أقول
و قلت لها:
كاترينا:هيه يا فتاة,هل تفهمين الإنجليزية؟
ليلى:لا
كاترينا:( اشرت إليها ) وماذا تتكلمين؟
لـيلى: الفرنسية هل تتكلمين الفرنسية؟
كاترينا: أجل أتكلم الفرنسية ما اسمكِ؟
لـيلى: ليلى(وهي تبكي و تنظرإلى أسفل القنطرة)
كاترينا:ممتاز ليلى,إسم جميل,ارجوكِ لا تتهوري ومدي إلي يدكِ,سأساعدكِ فقط إعدلي عن هذا
لـيلى:مستحيل,لقد قررت أن أُنهي حياتي و لا قانون يمنع المواطنين من الإنتحار
كاترينا:لا هناك الكثير لتفعليه بدلاً من إنهاء حياتكِ ماذا؟ماالذي يدفعكِ إلى هذا التصرف المجنون؟الفقر البطالة
هل قام أحدهم بالإعتداء عليكِ؟
لـيلى:هناك ألف سببٍ يجعلني أكره الحياة,أريد أن أموت,أريد أن أموت(وهي تبكي)
إتجهت صوبها بخطوات حذرة,وقفت على حافة القنطرة و قلت لها:
كاترينا:حسناً إذن تودين الإنتحار,لن تكوني الوحيدة,فأنا أيضاً سأضع حداً لحياتي,هناك الكثير لنتشاركه معاً,فأنا
ليست لدي عائلة و أعيش في بيت صديقتي,لازلت عذراء وللآن لم أرتبط بأحد,لا أملك أصدقاء و أعيش في وحدة خانقة,هل تريدين الإنتحار؟إذن فلننتحر سوية وليكن هذا هو آخر يومٍ بحياتنا
لـيلى: (قالت بإنفعالٍ شديد)لكنكِ لا تبيتين جائعة مثلي,لا تبيتين وعلى خدودكِ دموعُ الحسرة على الواقع الذي تعيشينه,ليس لديكِ والد يصفعكِ على وجهكِ بدلاً من قول صباح الخير يا بنيتي,أنتِ لا تتسكعين في الشوارع بحثاً عن لقمة العيش فتعودين بالقليل من المال و الكثير من التعب ليؤخذ منكِ ما كددتِ في جمعه و تحصيله طوال النهار تحت أشعة الشمس أو صقيع البرد في المساء,(وكشفت عن ساعديها وعليهما آثار الكي و الضرب
حتى ازرقت,وانحنت قليلاً تستطرد)إذن قولي:كيف لا أضع حداً لهذا البؤس والشقاء قولي قولي
حينها مددتُ لها ذراعيَّ واحتضنتها برفق ونزلنا بأمان وتوجهنا إلى السيارة وكانت تلك حقاً لحظة من اللحظات
التي لا تنسى والتي ترسخت ذكراها في قلبي إلى الآن,بعد ذلك انطلقنا إلى قسم الشرطة,وكلفت أحدهم بإستجواب
الزنوج و الرسامين المتمردين واتجهت برفقتها صوب مكتبي:
كترينا:رجاءً تفضلي بالجلوس ليلى
لـيلي:مرسي بوكو
كاترينا: (بعد أن علقت معطفي على الشماعة) مرحباً إسمي كترينا ستينتن,ظابط ممتاز,أريدكِ أن تهدئي وتخبريني
بكل شيء حدثَ معكِ بالتفصيل و بدون أي تحفظ,لا تخافي فأنتِ في أمانٍ هنا(رفعت سماعة الهاتف)ماذا تريدين ؟
لـيلى:حسناً لا يمكنني التحديد
كاترينا:مارتينيز,أحضر لي كوباً من الشاي الأسود و كوباً من الحليب الساخن مع الشكولاه,كراتسياس
نظرتُ إليها و إنتظرت أن تبدأ في سرد حكايتها لكنها كانت صامتة,مذعورة و لا زالت تحت تأثير الخوف:
كاترينا:إذن أنا أسمع,هاتِ ما عندكِ ليلى
لـيلى:كما سبق وأخبرتكِ من البداية,لقد ضقت ضرعاً بحياتي المأساوية,لا عمل و لا مأوى و لا حماية,فنحن نعيش أسفل البناية,والرطوبة تخنقنا و مساحة البيت تكاد تتسع لشخص واحد,ننام على الورق المقوى و نتغطى
ببعض الخرق التي نجدها على أرصفة الأغنياء(في الوقت الذي دخل مارتينيز و معه ما طلبت)
كاترينا:ضعها هنا من فضلك مرتينيز كراتسياس
مارتنيز:العفو سيدتي(واقفل الباب)
كاترينا:تفضلي
لـيلى:شكراً
كاترينا:من خلال اسمكِ أعتقد أنكِ عربية أليس كذلك؟
لـيلى:بلى هو كذلك
كاترينا:من أي بلد أتيتِ؟
لـيلى:من المملكة المغربية,وقد أتينا,أنا و أبي و أمي إلى إسبانيا,وكنا نسكن بإحدى المزارع التي يعمل بها أبي خارج مدريد,وكنا سعداء إلى أن إحتاحنا فيضان لوادٍ قريب من المزرعة راحت والدتي ضحيته فماتت غرقاً,ومنذ
ذلك الحين,أعطانا رب العمل بعض الأوروهات و رمى بنا إلى الشارع,ثم أتينا إلى حي سامانيجو حيث نسكن حالياً
ومن تم أدمن أبي على شرب الكحول و أخذ يرغمني على تدبر المال بأي طريقة لنسدد إيجار المسكن و نسد جوعنا,وكان يصفعني بقوة إن لم آتي بما يمكنه من إبتياع الكحول,فسئمت هذا الوضع وهذا ما دفعني للإنتحار
كاترينا:أتحملين بطاقتكِ الشخصية؟
لـيلى:لا أملكها حتى,فمنذ مجيئنا إلى الديار الإسبانية,كان والدي يطالب السلطات بأوراق ثبوتية,ورفضوا إعطاءه
إياها لأنه لا يملك شهادة إقامة,ورب العمل آنذاك لم يساعده في الحصول عليها خوفاً من التبعات القانونية و الإلتزام بمسؤوليته الكاملة عنا
كاترينا:حسنٌ سأضطر آسفة لحبسكِ لحين إستدعاء والدكِ ليخرجكِ بكفالة,عفواً لكن القانون يحتم عليَّ القيام بذلك
ناديت أحد رجال الأمن و أشرت إليهم بوضعها في الزنزانة التابعة للمركز لحين استدعاء والدها وهكذا كان,لا أنكر أنني تألمت لحالها,لكن ما باليد حيلة,فلا مجال للعواطف في هذا الميدان,نظرت إلى الساعة فإذا بها الحادية عشر ليلاً,توجهت صوب مكتب الكوميسير فرانكو لأعلمه بذهابي,وقعت على لائحة الخروج,وانطلقت بسيارتي إلى
المنزل و أنا منهكة للغاية,لأن الموقف صعب ولا يحتمل,فليلى لم تكن إلا مثالاً لمئاتِ الحالات التي تعيش في هـذا
الجانب المظلم من الكون,قد تجد بالصدفة من ينقذها من الضياع,أو قد تموت في صمت,ولا يدري أحد بواقعها إلا
إذا فاحت رائحتها الكريهة من أعماق الأرض ليوارى جثمانها أو يحرق حتى يصير رمادا,فينتثر في عرض البحر
لتنتهي حياة إنسانٍ بكل بساطة,شعرتُ بالضيق,وتوقفت للحظاتٍ أمام الشاطئ أتأمل الجانب الآخر من مدريد,أناسٌ
من كل الأعمار و الأجناس يتسكعون في جنبات الطريق,السكارى و المتمردون والذين يتعاطون للمخدر,ومجموعة
من الموسيقيين الذين يعبرون عن غضبهم بكلمات قاسية و جافة,فجأة مر أحدهم بجانبي و استوقفني:
ـ سيدتي,إشتري مني هذه الوردة,ارجوكِ إنها ببيزوس فقط,إشتريها مني فأنا جائع...!!
آلمني حاله فأشتريت منه الباقة كاملة,واتسعت عيناه,وركض مسرعاً يعبر عن فرحته عشر بيزوسات يا إلاهي,تلقيت حينها إتصالاً من إيميليا والدة ديانا,لتطمئن على حالي,ركبت السيارة و عدت إلى المنزل في عجل
في صباح الغد,عدت إلى المكتب,وقعت في لائحة الحضور,على الساعة الثامنة صباحاً,وطلبت من مرتنيز أن يحضر لي فنجان قهوة,إلى مكتبي,وعرجت على زنزانة ليلى:
كاترينا:صباح الخير ليلى كيف كانت ليلتكِ؟
لـيلى:لا تختلف سوءً عن سابقتها,وجائعة للغاية
كاترينا:حسناً سأحضر لكِ شيئاً لتأكليه,أخبريني,مااسم والدكِ و أين نجده بالظبط؟
لـيلى:إسمه علال وتجدونه بحي سمانييجو إقامة مارويكوس في أسفل البناية
كاترينا:شكراً لكِ سنستدعيه الآن لإخباره بأنكِ هنا حتى يدفع كفالتكِ,وبعدها سوف أتدبر لكِ عملاً تبتعدين به عن
المشاكل و تدفعين به إيجار المسكن,دون الحاجة إلى إهانة نفسكِ بالتسول في الشارع,أعدكِ فثقي بأنني صادقة
فيما أقول
لـيلى: (تضحك بشكل هستيري) لكن ماذا تعتقدين؟أبي مفلس و لا يملك ما يسد جوعه فكيف يؤدي عني هذه الكفالة!!,لا مستحيل,لقد ضعت حقاً إنتهيت
كاترينا:حسناً لا داعي للقلق,لقد وعدتكِ بأن أساعدكِ و لن أُخلِفَ وعدي,إلى اللقاء
فتوجهت بعدها إلى المجموعة وأعطيتهم أمراً بظبط و إحضار المدعو علال من العنوان المذكور,ومرت نصف ساعة على ذلك وأنا أنتظر بقلق,وصل أخيرا واستقبلته في مكتبي,فتحت معه تحقيقاً:
كاترينا:ما اسمك؟
علال:علال
كاترينا:بطاقتك التعريفية؟
علال:لا أملكها
كاترينا:إذن أنت هنا بدون أوراق ثبوتية و تقوم بإثارة الشغب و المتاعب
علال:لا أنا لا أثير أي شغب هنا
كاترينا:هل تعرف لما تم استدعاءك إلى قسم الشرطة؟
علال:لا
كاترينا:أنت هنا بتهمة الإعتداء على إبنتك بالضرب و الجرح,ودفعها إلى التسول و الإنحراف,وهذا يخالف قوانين
البلاد و بموجب هذا فأنت رهن الإعتقال,إضافة إلى دفع كفالة للإفراج عن إبنتك والتي تقدر بمائة أورو
علال:غير معقول,وكيف أصدق هذا الإدعاء يا حضرة الشرطية؟أين هي؟إنني لا أراها؟
كاترينا:حسناً تود أن تقابلها للتأكد من حقيقة الأمر؟(رفعت سماعة الهاتف وأمرت بإحضار ليلى إلى مكتبي وبعد قليل قرع الباب)
كاترينا:تفضل
ودخلت الفتاة برفقة الشرطي و نظرت بخوف إلى والدها,و كانت نظرته إليها مريبة,قام من مكانه:
علال:أيتها اللعينة ما الذي أتى بكِ إلى هذا المكان(واراد أن يصفعها لكن يداه كانت مصفدتان,وتقهقرت الفتاة في خوف)
كاترينا:ها هي إذن أمام عينيكَ
علال:وماذا بعد؟لا تهمني الفتاة يمكنكم سجنها أو القاءها في الجحيم
كاترينا:هذه ابنتك و انت تتحمل كامل المسؤولية فيما وصلت إليه الآن
علال:( ساخراً) لكنها ليست إبنتي
كاترينا:لا تراوغ و لا تتهرب من المواجهة كعادتك
علال:أقسم أنها ليست إبنتي,فهي إبنة المرحومة رقية,وقد تزوجتها وهي حامل,بعد أن إعتدى أحدهم عليها وهرب,كان ذلك في المغرب,وقد ربيتها كما لو أنها من صلبي,حينها كنت ميسور الحال و لم اتعاطى بعد للكحول
وعندما وجدت فرصة عمل هنا باسبانيا,قلت لرب العمل أن يساعدني في جلب زوجتي و ابنتي إلى المزرعة لنستقر هناك و نعمل بكد و جد على تحسين مردودية المحاصيل,وهكذا كبرت ليلى بيننا إلى أن بلغت السادسة عشر,وعند وفاة والدتها,أدمنت على الخمر و لم أعد قادراً على تحمل مسؤوليتها
بقلمي:
كريم الأصفهاني